من أسرار الإعجاز البياني في سورة القارعة
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله عز وجل :﴿ الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾(القارعة: 1- 11)
أولاً- افتتح الله تعالى هذه السورة الكريمة بلفظ ﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ ، وهو افتتاح مَهول مرعب ، فيه ترويع وتخويف ، وفيه إثارة وتشويق إلى معرفة ما سيأتي بعده من خبرها ، وقد ألقى به سبحانه مفردًا ؛ كالقذيفة هكذا :﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ ، بلا خبر ، ولا صفة ؛ ليلقي بظله وجرسه الإيحاء المدوِّي ، ويقرع بهوله القلوب .
ثم عقَّب سبحانه وتعالى على هذا الإجمال والإبهام بسؤال التهويل والتعظيم عن ماهيَّة هذه القارعة ؛ ليثير في النفوس الدهشة من هول هذه القارعة ، والتساؤل عن معرفة حقيقتها ، ثم أتبعه بسؤال آخر ، يزيد في التهويل من أمرها ، والتعظيم من شأنها ، فقال جل جلاله :﴿ الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴾ (1- 3) .
و﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ وصف مشتق من القرع على وزن : الفاعلة . والقرع هو ضرب جسم بآخر بشدة لها صوت . وأطلق مجازًا على الصوت الذي يتأثر به السامع تأثُّر خوف ، أو اتعاظ . يقال : قَرَّع فُلانًا بالتشديد . أي : زجره وعَنَّفه بصوت شديد . ويقال : قرَعه بالتخفيف . أي : ضربه بالعصا ، أو غيرها ضربًا عنيفًا . قال المتنبي :
العبد يقرع بالعصا ** والحر تكفيه الإشارة
وأطلق لفظ ﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ على الحدث العظيم ، وإن لم يكن من الأصوات ، ومنه قول العرب : قرعتهم القارعة ، وفقرتهم الفاقرة ، إذا وقع بهم أمر فظيع ، وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ ﴾ (الرعد: 31) . أي : تصيبهم داهية بما صنعوا ، تقرعهم بصنوف البلاء ، من القتل والأسر والحرب والجدب ، ونحو ذلك . وأنِّث لفظ القارعة لتأويلها بالحادثة ، أو الكائنة . وعليه فـالمراد بالـ﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ هنا : الحادثة العظيمة ، أو الشديدة من شدائد الدهر . وجمهور المفسرين على القول بأنها اسم من أسماء القيامة ؛ كالحَاقَّة ، والطَّامَّة ، والصَّاخَّة ، والغَاشِيَةُ ، والآزِفَة ، والوَاقِعَةُ .
وقالوا : إن الشيء إذا عظُم خطره ، كثُرت أسماؤه . وروي عن الإمام علي كرم الله وجهه قوله :« كثرة الأسماء تدل على عظمة المسمَّى » . ومعلوم أن ذلك ليس من المترادفات ؛ فإن لكل اسم دلالته على معنى خاص به . وفي الحقيقة أن لكل شيء اسم واحد ، وما عداه صفات له ، وكل صفة منها ، معناها غير معنى الأولى .
فـ﴿ الحَاقَّةُ ﴾ هي التي يحق فيها وعد الله تعالى بالبعث والجزاء . و﴿ الطَّامَّةُ ﴾ هي التي تطمُّ كل شيء ، وتعمه بأحوالها . و﴿ الصَّاخَّةُ ﴾ هي التي تصخُّ الآذان . أي : يصم صوتها الآذان بما يصحبه من جرس عنيف نافذ ، يكاد يخترق صماخ الأذن . وتقول العرب : صخَّتهم الصاخَّة ، ونابتهم النائبة . و﴿ الغَاشِيَةُ ﴾ هي الداهية العظيمة التي تغشى الناس. و﴿ الآزِفَةُ ﴾ هي التي تزِف ، بتخفيف الزاي وكسرها . أي : تقترب . والفرق بين قوله تعالى :﴿ أَزِفَتْ الْآزِفَةُ ﴾(النجم: 57) ، وقوله تعالى : ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ﴾(القمر: 1) هو أن الأَزَفَ ضيق الوقت ؛ ولهذا عُبِّرَ عنه في الثانية بالساعة . أما ﴿ الوَاقِعَةُ ﴾ فهي التي يصدق وقوعها ، فليس لنفس أن تكذِّب بها بأن تنفيها ؛ كما نفتها في الدنيا ﴿ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ﴾(الواقعة: 2) .
وأما ﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ فهي التي تقرع الناس بالأهوال ، والسماء بالانشقاق والانفطار ، والأرض والجبال بالدك والنسف ، والنجوم والكواكب بالطمس والانكدار . ومذهب أهل التحقيق من المفسرين أن قوله تعالى :﴿ الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ ﴾ أشدُّ هولاً من قوله تعالى :﴿ الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ ﴾ ؛ لأن النازل آخرًا لابد ، وأن يكون أبلغ ؛ لأن المقصود منه زيادة التنبيه . وهذه الزيادة لا تحصل إلا إذا كانت أقوى . وأما بالنظر إلى المعنى فـ﴿ الْحَاقَّةُ ﴾ أشدُّ لكونها راجعة إلى معنى : العدل ، و﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ أشد لكونها تهجم على القلوب بالأمر الهائل .
إذا عرفت هذا ، فتأمل قوله تعالى :﴿ الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ ﴾ ، كيف وضعت ﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ في الآية الرابعة موضع ضمير ﴿ الْحَاقَّة ﴾ ؛ إذ كان ينبغي أن يقال :﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِهَا ﴾ . وإنما أتى سبحانه وتعالى- هنا- بلفظ ﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ ؛ لتدل على معنى القرع في ﴿ الْحَاقَّة ﴾ ، زيادة في وصف شدَّتها وهولها .
أما قوله تعالى :﴿ مَا الْقَارِعَةُ ﴾ ؟ فهو استفهام يراد به التهويل والتعظيم على طريقة المجاز المرسل ؛ لأن الأمر العظيم من شأنه أن يستفهم عنه ، فصار التعظيم والتهويل مع الاستفهام متلازمين . والأصل فيه :﴿ الْقَارِعَةُ * مَا هِيَ ﴾ ؟ أي : أيُّ شيء عظيم مَهول هي ؟ فوضع الاسم الظاهر موضع المضمَر تفخيمًا لشأنها ، وتفظيعًا لهولها . ونحو ذلك قولك : زيد ، ما زيد ؟ جعلته لانقطاع قرينه ، وعدم نظيره ؛ كأنه شيء خَفِيَ عليك جنسه ، فأنت تسأل عن جنسه ، وتفحص عن جوهره ؛ كما تقول : الغول ، ما الغول ؟ والعنقاء ، ما العنقاء ؟ تريد : أيُّ شيء من الأشياء هي ؟
ولهذا قال السكاكي :« يُسأل بـ( ما ) عن الجنس . تقول : ما عندك ؟ أي : أيُّ الأشياء عندك ؟ وجوابه : إنسان ، فرس ، كتاب . وكذلك تقول : ما الكلمة ؟ وما الكلام ؟ وفي التنزيل :﴿ فَمَا خَطْبُكُمْ ﴾(الحجر: 57، والذاريات: 31) ؟ أو يُسْأل بها عن الوصف ، تقول : ما زيد ؟ وما عمرو ؟ وجوابه : كريم ، أو فاضل ، ونحوهما » .
وقال الفخر الرازي :« لفظة ﴿ مَا ﴾ وضعت لطلب ماهيَّات الأشياء وحقائقها . تقول : ما الملك ؟ وما الروح ؟ وما الجن ؟ والمراد : طلب ماهيَّاتها ، وشرح حقائقها . وذلك يقتضي كون ذلك المطلوب مجهولاً . ثم إن الشيء العظيم الذي يكون لعظمه وتفاقم مرتبته ، ويعجز العقل عن أن يحيط بكنهه ، يبقى مجهولاً ؛ فحصل بين الشيء المطلوب بلفظة ﴿ مَا ﴾ ، وبين الشيء العظيم مشابهة من هذا الوجه . والمشابهة إحدى أسباب المجاز ، فبهذا جُعِل ﴿ مَا ﴾ دليلاً على عظمة حال ذلك المطلوب ، وعلو رتبته » .
ولمَّا كان هول الشيء وعظمه يستلزم تساؤل الناس عنه ، أتبعه الله تعالى بقوله :﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴾ ؟ زيادة في التهويل ، ومبالغة في التعظيم . والخطاب فيه لغير معين ، والمعنى : أيُّ شيء أدراك أيها السامع : ما القارعة ؟
ولك أن تجعل هذا الاستفهام إنكاريًا . أي : لا دراية لك بكنهها ، ومدى عظمها وشدتها . يعني : أنها في العظم والشدة ، بحيث لا يبلغه دراية أحد ، ولا وهمه . وكيفما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك وأعظم ، فلا يتسنى الإعلام عنها . ومنه يعلم أن الاستفهام- هنا- كُنِّيَ به عن لازمه من أنها لا تعلم ، ولا يصل إليها دراية دار ، ولا تبلغ كنهها الأفكار والأوهام والتصورات ؛ لأنها أكبر من أن يحيط بها الإدراك , ويبلغ درايتها الوهم ، ويلمُّ بها التصور !
وا