سورة الكافرون...بيان واعجاز
قال الله جل وعلا:﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾(الكافرون: 1- 6).
أولاً- لم يكن العرب في جاهليتهم الأولى يجحدون الله تعالى؛ ولكنهم كانوا لا يعرفونه بحقيقته، التي وصف بها نفسه، والتي عرفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنون؛ ولهذا كانوا يشركون به آلهتهم في العبادة، وكانوا لا يقدرونه حق قدره، ولا يعبدونه حق عبادته. لقد كانوا يؤمنون بوجود الله تعالى، وأنه الخالق للسموات والأرض، والخالق لذواتهم؛ ولكنهم مع إيمانهم به، كان الشرك يفسد عليهم تصورهم؛ كما كان يفسد عليهم تقاليدهم وشعائرهم. وكانوا يعتقدون أنهم على دين إبراهيم عليه السلام، وأنهم أهدى من أهل الكتاب، الذين كانوا يعيشون معهم في الجزيرة العربية؛ لأن اليهود كانوا يقولون: عزيرٌ ابن الله. والنصارى كانوا يقولون: عيسى ابن الله، بينما هم كانوا يعبدون الملائكة والجن، على اعتبار قرابتهم من الله- على حدِّ زعمهم- فكانوا يحسبون أنفسهم أهدى وأقوم طريقاً؛ لأن نسبة الملائكة والجن إلى الله أقرب من نسبة عزير وعيسى.. وكله شرك، وليس في الشرك خيار.
ولما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم يقول:﴿إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾(الأنعام: 161)، قالوا: نحن على دين إبراهيم، فما حاجتنا- إذًا- إلى ترك ما نحن عليه، واتباع محمد ؟! وفي الوقت ذاته راحوا يحاولون مع الرسول صلى الله عليه وسلم خطة وسطًا بينهم، وبينه، فعرضوا عليه أن يسجد لآلهتهم مقابل أن يسجدوا هم لإلهه، وأن يسكت عن عيب آلهتهم وعبادتهم، وله فيهم وعليهم ما يشترط !
ولعل اختلاط تصوراتهم، واعترافهم بوجود الله مع عبادة آلهة أخرى معه، كان يشعرهم أن المسافة بينهم، وبين محمد قريبة، يمكن التفاهم عليها، بقسمة البلد بلدين، والالتقاء في منتصف الطريق، مع بعض الترضيات الشخصية؛ كما يفعلون في التجارة تمامًا. وفرق بين الاعتقاد والتجارة كبير! فصاحب العقيدة لا يتخلى عن شيء منها؛ لأن الصغير منها كالكبير؛ بل ليس في العقيدة صغير وكبير، إنها حقيقة واحدة متكاملة الأجزاء، لا يطيع فيها صاحبها أحدًا، ولا يتخلى عن شيء منها أبدًا. وما كان يمكن أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق، ولا أن يلتقيا في أي طريق؛ وذلك حال الإسلام مع الجاهلية في كل زمان ومكان- جاهلية الأمس، وجاهلية اليوم، وجاهلية الغد كلها سواء- إن الهوة بينها، وبين الإسلام لا تُعْبَرُ، ولا تقام عليها قنطرة، ولا تقبل قسمة، ولا صلة، ولا مساومة؛ وإنما هو النضال الكامل، الذي يستحيل فيه التوفيق بين الحق، والباطل !
ولقد وردت روايات شتى فيما كان يساوم فيه المشركون النبي صلى الله عليه وسلم، ويدهنون له؛ ليدهن لهم ويلين، كما يودون، ويترك سب آلهتهم وتسفيه عبادتهم، أو يتابعهم في شيء مما هم عليه؛ ليتابعوه في دينه، وهم حافظون ماء وجوههم أمام جماهير العرب، على عادة المساومين الباحثين عن أنصاف الحلول ! ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان حاسمًا في موقفه من دينه، لا يساوم فيه، ولا يدهن، ولا يلين، حتى وهو في أحرج المواقف العصيبة في مكة، وهو محاصر بدعوته، وأصحابه القلائل يتخطفون، ويعذبون، ويؤذون في الله أشد الإيذاء، وهم صابرون، ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال في وجوه الطغاة المتجبرين، تأليفًا لقلوبهم، أو دفعًا لأذاهم، ولم يسكت كذلك عن إيضاح حقيقة تمس العقيدة من قريب، أو من بعيد، وهو فيما عدا الدين ألين الخلق جانبًا، وأحسنهم معاملة، وأبرُّهم بعشيرة، وأحرصهم على اليسر والتيسير. فأما الدين فهو الدين، وهو فيه عند توجيه ربه؛ حيث يقول له سبحانه:﴿ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ﴾(القلم:
!
وروى ابن اسحق في سبب نزول هذه السورة الكريمة، فقال:” اعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يطوف بالكعبة- فيما بلغني- الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل السهمي، وكانوا ذوي أسنان في قومهم، فقالوا: يا محمد ! هَلُمَّ، فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرًا مما نعبد، كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرًا مما تعبد، كنت قد أخذت بحظك منه ! فأنزل الله تعالى فيهم:
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾
وهكذا بهذا الجزم، وبهذا التوكيد، نزلت هذه السورة الكريمة؛ لتحسم كل شبهة واهية، وتقطع الطريق على كل محاولة رخيصة، ومساومة مضحكة، وتفصل فصلاً حاسمًا بين عبادة الحق وعبادة الباطل، وتفرق نهائيًاً بين التوحيد والشرك، وتقيم المعالم واضحة، لا تقبل المساومة والجدل في قليل، ولا كثير.