بسم الله الرحمن الرحيم
إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ{1} وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً{2} فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً{3} [النصر: 1-3]
سورة النصر أو الفتح: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)[النصر:1]. وهما اسمان لهذه السورة.
والنصر هو الاسم الغالب.
وإذا سميناها الفتح؛ صار هناك لبس مع سورة أخرى وهي قوله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)؛ ولذلك يكون الاسم الأول أولى؛ لعدم اشتباهه والتباسه.
هذه السورة كانت تسمى بسورة النصر وكان ابن مسعود رضي الله عنه يسميها سورة: التوديع. فكأن الله تعالى يقول له: إن الله –سبحانه وتعالى- قد أنجز لك ما وعدك، وحقق لك النصر والفتح، ودخل الناس في الدين، واكتملت المهمة؛ فاستعد للقاء الله تبارك وتعالى. فكان أبو بكر الصديق يبكي وهكذا ابن عباس رضي الله عنه كما في صحيح البخاري (4294) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضى الله عنهما- قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِى مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا الْفَتَى مَعَنَا، وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ. قَالَ: فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ، وَدَعَانِى مَعَهُمْ. قَالَ: وَمَا رُئِيتُهُ دَعَانِى يَوْمَئِذٍ إِلاَّ لِيُرِيَهُمْ مِنِّى، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ). حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ، إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نَدْرِى. أَوْ لَمْ يَقُلْ بَعْضُهُمْ شَيْئًا. فَقَالَ لِى: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَكَذَاكَ تَقُولُ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَعْلَمَهُ اللَّهُ لَهُ؛ (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ). فَتْحُ مَكَّةَ، فَذَاكَ عَلاَمَةُ أَجَلِكَ؛ (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا). قَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلاَّ مَا تَعْلَمُ.
وهذا من المعاني اللطيفة في القرآن الكريم، والسورة ليس فيها إشارة وإنما فيها بشارة بالفتح والنصر ودخول الناس في الدين وأمر النبي –صلى الله عليه وسلم- بالتسبيح والاستغفار؛ لكن يدرك الإنسان المتأمل من وراء هذه المعاني ومن وراء هذه السياقات أن في ذلك إشارة إلى كمال الأمر. والناس يقولون:
إِذَا تَمَّ شَيءٌ بَدَا نَقْصُهُ
تَرَقَّبْ زَوَالًا إِذَا قِيلَ تَمّْ
فيدرك أن من وراء ذلك تذكيراً للنبي –صلى الله عليه وسلم- للاستعداد للقاء ربه وانتقاله إلى الدار الآخرة.
وهذه السورة على وجازتها إلا أن فيها من المعاني الشيء الكثير.
هذه السورة بالاتفاق: سورة مدنية، بل هي من أواخر ما نزل من سور القرآن الكريم، ويمكن أن تكون آخر ما نزل على قول بعضهم، كما نقل عن ابن عمر، كسورة كاملة، ولكن اختلفوا في وقت النزول. بعضهم قال: في السنة السابعة. وعلى هذا تكون قبل فتح مكة؛ لأن فتح مكة كان في السنة الثامنة وبعضهم قال إنها كانت بعد الفتح؛ وهذا هو الأظهر: أنها نزلت بعد فتح مكة وقبل وفاة النبي –صلى الله عليه وسلم- بسنتين أو نحوها.
قوله تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ). التعبير بفعل "جاء" مشعر بالتوقيت وأن هذا الفتح والنصر لا يأتي اعتباطًا أو من دون ترتيب؛ وإنما هو جاء بتوقيف وتوفيق وتوقيت من الله سبحانه وتعالى. وفي ذلك رعاية للأسباب؛ لأن هذا النصر الذي جاء بعد عشرين سنة جاء وفق أسباب ووفق سنن وترتيبات وتوفيق ورعاية من الله تبارك وتعالى فجاء النصر هنا على قَدَرٍ بعد آلام وابتلاءات ومخاوف وجهاد ومجاهدة، كما قيل:
جَاءَ الخِلَافَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا
كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ
وإضافة النصر إلى الله في قوله: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ). فيه تذكير بنعمة الله ومنّته في تحقق هذا النصر، وهذا التذكر يقلل من شعور العبد بعمله؛ ويردّ العبد إلى التواضع ويدفعه إلى شكر الله واستشعار عظيم نعمته وفضله؛ ولهذا فالنبي –صلى الله عليه وسلم- لما دخل مكة فاتحًا دخلها مطأطئاً رأسه، تواضعاً لله سبحانه وتعالى خلافاً لعادة السلاطين والملوك وأصحاب السيادة وأصحاب الصولجان والأبهة الدنيوية- الذين إذا فتحوا البلدان دخلوها باستعلاء وكبرياء وبطشوا بخصومهم وأعملوا فيهم السلاح بالقتل والتمثيل.
وجاء أيضًا في الصحيح أن أول عمل بدأ به لما دخل مكة هو الصلاة – كما أخبرت بذلك أم هانئ- استشعاراً لفضل الله وإظهاراً لشكره وحمده. إذًا فهذا قدر مقدور من عند الله –عز وجل- أن يأتي النصر والفتح منه، وإن كان من قدره سبحانه أن ينفذ هذا من خلال أفعال العباد؛ (وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ)[الزخرف:60]. ولو شاء الله –عز وجل- لنصر هذا الدين بالملائكة أو جعل للمؤمنين معجزات لا تنقطع أبدًا، ولكن شاء –سبحانه وتعالى- أن يبتلي العباد بعضهم ببعض: (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْض)[محمد: من الآية4]. فالمسألة مسألة مجاهدة ومصابرة، ويوم علينا ويوم لنا، ويوم نُساء ويوم نُسر، حتى تكون العاقبة للمتقين.
هنا أيضًا معنى لطيف آخر وهو في نسبة النصر إلى الله فلم يقل: إذا جاء النصر والفتح. وإنما قال: (جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ) ففي هذا دلالة على عظمة هذا النصر وديمومته واستمراره وأنه نصر على الحقيقة. فلم يكن نصرًا محدودًا في معركة صغيرة ولا نصرًا مرحليًّا.
أيضًا معنى آخر: الله –سبحانه وتعالى- في القرآن يقول: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)[ آل عمران : 126]. إذًا النصر أصلًا هو نصر الله بكل حال، فلماذا قال: (نَصْرُ اللَّهِ)؟ في تقديري والله أعلم: أن في هذا نوعًا من الثناء المبطن أيضًا على النبي –صلى الله علي وسلم- وعلى المؤمنين معه, كيف يثني عليهم؟ جاء نصر الله فيه كما أن في نسبة النصر إلى الله في هذه الآية يستبطن الثناء على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حيث تحقق النصر على أيديهم وما ذاك إلا لأنهم جديرون به لأن الله يقول: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ)[الحج: 40]. ومن هم هؤلاء الذين وعدهم الله بالنصر؟ الجواب في قوله في الآية التي تليها: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُم)[الحج: 41]. أيضًا ( إِنْ ) هذه تدل على أمر مستقبل؛ فربط الله –سبحانه وتعالى- النصر على علامة مستقبلية, وليس على علامة ماضية! ما قال لينصرن الله مثلًا الذين قد أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة... وإنما قال: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ)[الحج: 41]. لماذا ؟
والسر هنا لطيف, وهو أنه قد يقوم قوم يقيمون أمر الله –سبحانه وتعالى- في ظاهر الحال لكن يعلم الله –سبحانه وتعالى- أنهم لو نُصروا ما التزموا بتبعات النصر, وما قاموا بتكاليفه؛ فقد يحجب الله النصر عنهم رحمة بهم, بينما وعد الله بالنصر (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ). يعني: لو مكناهم في الأرض لأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فهل تستطيع أن تجزم قطعاً أن تقول عن فئة أنهم لو نُصروا لأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر؟! الجواب: لا أحد يجزم بذلك قطعاً، فما يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى.
لكن لما قال الله هنا: (إذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ). فمعناه أن هؤلاء الذين جاءهم نصر الله هم ممن إذا مُكِّنوا في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر؛ فأي مدح أو ثناء أكثر من أن يزكي الله سبحانه وتعالى ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم؟! لا جرم أن فيه ثناءً كبيراً على هؤلاء الذين استحقوا نصر الله.
ثم ذكر الله بعد النصر بُشرى ثانية وهي الفتح وهو من آثار النصر.
إذًا أول مرحلة هي النصر, والنصر قد يحصل للإنسان ولا يكون معه فتح، مثلًا: لو أن عدوك هجم عليك ثم قاتلته وطردته عن بلادك، هذا نصر أم ليس بنصر؟نصر.. لكن هل معه فتح؟ ليس معه فتح, ولكنك سلمت من شر عدوك.
فالنصر هو تغلب في معركة ما؛ لكن لا يلزم أن يكون معه فتح, فلما قال -سبحانه وتعالى-: (جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ). دل على أنهم انتصروا على العدو ثم فتحوا أرضه، والفتح ليس بلازم قبل نصر، إذ للنصر صور كثيرة لا تنحصر في النصر العسكري والمادي.
ـ فمنها ثبات الإنسان على دينه، ولو تغلب عليه عدوه. هذه من صور النصر. كما حصل لأصحاب الأخدود، وقد ذكر المفسرون معاني من هذا القبيل عند تفسيرهم لقوله تعالى:" إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ[غافر: 51].
ـ ومنها إهلاك الله -سبحانه وتعالى- للأعداء حتى لو لم يفتح للمؤمنين.
فهذا النصر مفهومه أوسع من هذا الجانب، وله صور متعددة وكثيرة, لكن فيما يتعلق بالفتح, أليس الفتح دليلًا على قضية أنه حصل لهم انتصار مادي بالقوة, وتغلب على عدوهم؟
ولكن لما بشرهم الله بالفتح دل على أن نصرهم لم يكن مجرد ثباتهم على دينهم أو إهلاك عدوهم أو صد عدوهم عنهم وحمايتهم منه، وإنما النصر الذي بشرهم به نصر كبير ترتب عليه الفتح الكبير.
قوله تعالى: (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا). هذا هو الوعد الثالث؛ الناس مَن المقصود بهم هنا؟ كل الناس دخلوا في دين الله؟ لا... إذًا ربما نقول: الناس في جزيرة العرب, وليس بالضرورة أن الناس كلهم, ولهذا قال: أفواجًا. وكونهم أفواجًا دليل معناه أنهم يدخلون مجموعة بعد مجموعة. معناه: أن الناس المقصود بهم، كما يقول بعضهم [أل] هنا للعهد أي المعهودين في الذهن وهم الناس في جزيرة العرب، والأفواج جمع فوج، والفوج المجموعة من الناس (أفواجاً) أي: مجموعة إثر أخرى. إذًا لم يعد الناس يدخلون في الإسلام أفرادًا مستخفين، كما كان أول الأمر، وإنما يدخلون أفواجًا, وفي ذلك دليل على معان عظيمة:
أولًا: أن الإسلام قد قويت شوكته التي تجاسر الناس على أن يستعلنوا بالدخول فيه أفواجاً تلو أفواج.
ثانياً: أن دخول الناس أفواجاً في دين الله يدل على أن الإسلام قد تمت له أركانه، وعلا شأنه وظهرت مناراته وقويت شوكته حتى زالت كل العوائق وتحطمت العقبات والمخاوف التي كانت تصد الناس عن الدخول فيه.
وفي هذا تذكير بسعة رحمة الله -سبحانه وتعالى- بعباده، فهؤلاء الذين دخلوا في دين الله أفواجًا قد كانوا على مدى عشرين سنة شجىً في حلوق النبي –صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين فمنهم من حاربهم ومنهم من استعدى عليهم، وفيهم من قتل من صحابته، وطردوهم من بلادهم، ومع ذلك فالله سبحانه وتعالى قبل منهم توبتهم فلم يؤاخذهم عن أمر مضى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) [الأنفال : 38]. فآتت الدعوة أكلها وأنتجت ثمرتها وهو دخول الناس في دين الله أفواجًا. وفيه تفريح للنبي –صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين.
ثم بعد أن ذكّر الله هذه المنن الثلاث وهي: النصر والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجاً خاطب النبي –صلى الله عليه وسلم- بثلاثة مطالب, في مقابل النعم الثلاث التي امتن بها عليه فقال: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا). فأمر الله -سبحانه وتعالى- نبيه بالتسبيح والتحميد والاستغفار, والتسبيح هو أن يقول: سبحان الله. ومعناه: تنزيه الله -سبحانه وتعالى- عن صفات النقص وإثبات صفات الكمال له؛ وقد فهم ابن عباس من هذا الأمر أن فيه إشعاراً للنبي صلى الله عليه وسلم بقُرب أجله فقد تم الأمر وجاء الفتح والنصر ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
وقد ذكرت عائشة رضي الله عنها - كما في الصحيحين- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- بعد ما نزلت عليه هذه السورة كان قلما يركع أو يسجد إلا قال: "سُبحانَكَ اللَّهمَّ ربنا وبحمدِك، اللهمَّ اغفِرْ لِي". يتأول القرآن. أي: يحقق ما أمره الله تبارك وتعالى به في هذه السورة الكريمة من التسبيح.
وقوله: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ). والمعنى إما أن يكون: قل: سبحان الله والحمد لله. أو يكون المعنى- وهذا أقرب سبح ربك وأنت متلبّس بحمده.
والتسبيح هو التنزيه والثناء على الله تعالى بصفات الكمال والمجد.
وأما الحمد فهو: وصف المحمود والثناء على المحمود بصفات المجد، والثناء على ما أسدى وأنعم على العبد من النعم، أو على ما اتصف به من صفات الكمال.
ما الفرق بين الحمد والشكر؟
الحمد يكون بالثناء على المحمود، وهو الله سبحانه وتعالى، بصفات الكمال والمجد والعظمة والكبرياء والجلال والقدرة والقوة والعلم والرحمة، وأما الشكر فيكون الثناء عليه بالمعروف الذي أسداه إليك.
هذا من الفروق اللطيفة الواضحة.
وقد جاء الأمر بهذه الأوامر الثلاثة مبدوءاً بالتسبيح ثم الحمد ثم بالاستغفار؟ وهذا الترتيب مناسب جدًّا؛ فالتسبيح وهو الثناء على الله سبحانه وتعالى بالمحامد ونفي النقائص عنه، وهذا أكمل وأعلى ما يكون، ثم ثنى بالحمد، والحمد فيه معنى الشكر، ولذلك يجمع بينهما غالبًا، فهو حمدٌ لله تعالى على ما أنعم على النبي –صلى الله عليه وسلم- وعلى المؤمنين من الخير والنصر، ثم ثلّث بما يتعلق بحال العبد نفسه وهو الاستغفار من الذنب، وها هنا سؤال: وما معنى الأمر للنبي –صلى الله عليه وسلم- بالاستغفار؟ وهل صدر منه ما يوجب الاستغفار حتى يؤمر بذلك؟
من أهل العلم من قال: إن المقصود بهذا أمته –صلى الله عليه وسلم-، يعني: استغفر لأمتك، أو لهؤلاء الناس الذين دخلوا في دين الله أفواجًا، استغفر ربك لهم؛ لأنهم أصبحوا من أهل ملتك ودينك.
فهذا معنى ذكره كثير من أهل العلم وقالوا: إن المقصود الاستغفار للأمة.
ومنهم من قال: إن أمر الله نبيه –صلى الله عليه و سلم- بالاستغفار لتتأسى به أمته في ذلك، فكأن المعنى: استغفروا ربكم، فإن نبيكم –صلى الله عليه وسلم- قد أُمر بأن يستغفر ربه، وهو من هو، فكيف بكم أنتم!
ومنهم من قال- وهذا ربما يكون أجود: إن النبي –صلى الله عليه وسلم- قد يقع منه ما ينبغي له الاستغفار منه من غير أن يكون هذا معصية لله تبارك وتعالى، لكن قد يقع منه اجتهاد على خلاف الأولى في بعض المسائل، أو يقع منه انشغال في بعض الأمور التي في مقامه العلي النبوي الكريم يكون الاستغفار منه لائقًا ومناسبًا وتحقيقًا لكمال نبوته وفضيلته عليه الصلاة والسلام، كما ورد مثلًا في القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى)[عبس: 1، 2].
وكقوله تعالى والمقصود النبي –صلى الله عليه و سلم-: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ)[الأحزاب: 37]. وكقوله تبارك وتعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْض)[الأنفال: 67].
إذًا هذه اجتهادات هي لأمر الدعوة، ولأمر الأمة ليست لأمر خاص، ولكن في مقام النبوة وما فيه من العظمة والكمال؛ فإن الله -سبحانه وتعالى- يأمر نبيه –صلى الله علي وسلم- بالاستغفار لبلوغ الكمال في مثل هذه الأمور التي هي من جنس المفضول، أو من عدم القيام بكمال الشكر في بعض المواقف أو ما أشبه ذلك.
ثم ختم السورة بقوله: (إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا). وهنا لم يقل: إنه كان غفارًا. مع أن الأمر في السورة كان بالاستغفار لا بالتوبة, فهذا أنسب لنهايات السورة، ومع ذلك هو أدل على أن المقصود ليس الاستغفار من ذنوب أو معاص يتاب على العبد منها، وإنما هو كما قلنا من باب فعل المفضول وترك الفاضل في حالات، أو الاجتهاد فيما هو خلاف للأولى كما في قصة أسرى بدر أو غيرها، فالمناسب هنا هو أن يقول: (إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا). [right]